التبيان في أقسام القرآن
ابن القيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه
فصل في أقسام القرآن
وهو سبحانه يقسم بأمور على أمور وإنما يقسم بنفسه الموصوفة بصفاته وآياته
المستلزمة لذاته وصفاته وإقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته فالقسم إما على جملة خبرية وهو الغالب كقوله تعالى { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ } وإما على جملة طلبية كقوله تعالى { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
ص -2- مع أن هذا قد يراد به تحقيق المقسم عليه فيكون من باب الخبر وقد يراد به تحقيق القسم
والمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه فلا بد أن يكون مما يحسن فيه ذلك كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها فأما الأمور الظاهرة المشهورة كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض فهذه يقسم بها ولا يقسم عليهاV
وما أقسم عليه الرب فهو من آياته فيجوز أن يكون مقسما به ولا ينعكس
وهو سبحانه يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب وتارة يحذفه كما يحذف جواب لو كثيرا كقوله تعالى { كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } وقوله {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ } {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} {ولو ترى إذا فزعوا فلا فوت} { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ } ومثل هذا حذفه من أحسن الكلام لأن المراد أنك لو رأيت ذلك لرأيت هولا عظيما فليس في ذكر الجواب زيادة على ما دل عليه الشرط وهذه عادة الناس في كلامهم إذا رأوا أمورا عجيبة وأرادوا أن يخبروا بها الغائب عنها يقول أحدهم لو رأيت ما جرى يوم كذا
ص -3- بموضع كذا ومنه قوله تعالى {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} فالمعنى في أظهر الوجهين لو يرى الذين ظلموا في الدنيا إذ يرون العذاب في الآخرة والجواب محذوف ثم قال {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} كما قال تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} أي لو ترى ذلك الوقت وما فيه
وأما القسم فان الحالف قد يحلف على الشيء ثم يكرر القسم فلا يعيد المقسم عليه لأنه قد عرف ما يحلف عليه فيقول والله إن لي عليه ألف درهم ثم يقول ورب السموات والأرض والذي نفسي بيده وحق القرآن العظيم ولا يعيد المقسم عليه لأنه قد عرف المراد
والقسم لما كان يكثر في الكلام اختصر فصار فعل القسم يحذف ويكتفى بالباء ثم عوض من الباء الواو في الأسماء الظاهرة والتاء في أسماء الله كقوله {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} وقد نقل ترب الكعبة وأما الواو فكثيرة
فصل
إذا عرف هذا فهو سبحانه يقسم على أصول الإيمان التي يجب
ص -4- على الخلق معرفها تارة يقسم على التوحيد وتارة يقسم على أن القرآن حق وتارة على أن الرسول حق وتارة على الجزاء والوعد والوعيد وتارة على حال الإنسان فالأول كقوله { وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } والثاني كقوله { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } وقوله {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } إذا جعل ذلك جواب القسم كما هو الظاهر وإن قيل بل الجواب محذوف كان كقوله {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } فانه هنا حذف الجواب ومن قال إن الجواب هو قوله { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } فقد أبعد النجعة
والقسم على الرسول كقوله {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيم إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } إذا قيل هو الجواب وإن قيل الجواب محذوف كان كما ذكر ومنه {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً
ص -5- غَيْرَ مَمْنُونٍ } ومنه { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } إلى آخر القصة ومنه قوله { فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ } وقوله { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ }
وأما القسم على الجزاء والوعد والوعيد ففي مثل قوله { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ } ثم ذكر تفصيل الجزاء وذكر الجنة والنار وذكر أن في السماء رزقهم وما يوعدون ثم قال { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } ومثل قوله { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً إنما إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ } ومثل { وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُور إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ }